فنانة بُعِثَتْ من العقاب


عندما عجزتُ عن ترجمة الفن
عندما أصبَحَ غريباً
عندما صار تأمل اللوحة أو الوجه المبهج مزعج كالنظرِ مباشرةً إلى الشمس
وعندما أصابتني نبضات قلبي بالصمم لشدة ارتفاعها
وعندما عاندتُ حقيقتي حتى أَصير كذبة
وعندما سقطتُ على كوكبٍ سحريّ وفقدتُ لغتي
فقدتُ لوني المفضل
ورقصتي التي اخترعتها
فقدتُ سذاجتي
عندما هجرني أبي
وفقدَتْ وجنتايَ القدرةَ على الإحمرار
وفقَدَ قلبي القدرةَ على الرّفرفة
وفقدتُ مواهبي وهواياتي
فقدتُ ألعابي
ورسوماتي القديمة منذ طفولتي
فقدتُ مقدَّماً ذكرياتي
عندما أنكرتُ أعمال الشغب البريئة في طفولةٍ ذات سبع سنوات
بعد أن عاقبتني أمي عليها بكيّ إبهامي الأيسر
وبعد أن التفتُ من شدة الألمِ نحو الجدار
وبكيتُ لساعتين دون حراك
أدركتُ أنني
“فنانة بُعثتْ من العقاب”
فأثناء العقاب هذا..
كنت أتأمل خربشاتي
رقصاتي
كتاباتي
أتخيّلها من دونِ عيوب
أكتشفُ نقصها وسببِ شحوبها
أتخيّلها من دون الإرتعاشِ الواضحِ في الخطوط
كنت أُدرّبُ حنجرتي الذهبية على صمتِها
فأسمع أغنيتي.. دون كلمةٍ .. دون صوتْ
أُدرّبُ وجهي على الضحك والبكاء
أُدرّبُ ملامحي على التعبير في الخفاء
أُدرّبُ جسدي المتعب على الصمودْ
على الصبرِ .. على الجمودْ
أُدرّبهُ على تكرارِ الحياة بعد كل موتْ
فجعل مني فنانة محترفة
حصدَتْ جائزة على أداءِ دقيقةٍ ونصف فقط.. في أول صعودٍ لها على خشبة المسرح
وكفنانة سيُباعُ فنّها في مزاد..
حرصتُ على لمعانِ سمعتي وحذائي
حرصتُ على أن يكون معطفي مكوِيّاً
فأنكرتُ بداياتي
أنكرتُ فكرة أنني قد أكون مبتدئة ذات يوم
أنكرتُ حقيقة أنني كنتُ أتوسّل أمي.. أتوسّل أبي
ليُلقيا عليّ نظرة ما .. تمنحني اعترافاً دافئاً
فلم يُربت أحدهما على رأسي
ولم يقولا لي قولاً جميلاً
فتركاني ..
وتركَتْ الحياة الكثير من بقعها على وجهي وقُمصاني
فذهبتُ إلى الصفوفِ الدراسية متأخرة
ذهبتُ إلى البروفات المسرحيةِ متأخرة
ذهبتُ إلى العملِ بعمرِ الستة عشر ربيعاً
ذهبتُ هذه المرة جداً مبكرة
ومنذ ذلك الوقت
لم تضحك علي زميلاتي يوماً
ولم أُعاقَبْ من قِبَل أستاذ
ولم أنسى حقيبتي ودفاتري
ولم أرسم على الجدار
ولم أخشى ورقة الاختبار بل وجّهتُ وجهي نحو الحائط فقط.. واستغرقتُ في الخيال
استغرقتُ في النظر لدقائقٍ .. لساعاتْ
لأيامٍ.. لأسابيعٍ
لشهور ٍ حركتُ أصابعَ الوهمِ في الهواءْ
رقصتُ بجرحي على الأقدارِ
رقصتُ على الهراءْ
لعدة سنواتْ
ومنذ ذلك الوقت أيضاً وأنا لا أكترث
رغم أنني الآن ..
أحظى بالكثير من التصفيق والمُجاملات
أنالُ الكثير من دروعِ التكريم والجوائز
أحصُد الكثير الذي يُنشر ولا أنشُر
أتلقّى الكثير من فرصِ الشهرة فأرفضها
لأنني ببساطة.. لا أكترث
وحتى الآن ..
أنا لا أكترثُ لحقيقة أنني موهوبة.. مميزة.. وعبقرية باعتراف كل الناس
ما عدا والداي
وأحياناً ما عداي
أنا أكترث فقط
لحقيقةِ أنني إنسانة
لسببٍ ما .. ولرسالةٍ ما في روحها
كانت فنانة.. بُعثتْ.. من العقاب.